لماذا يصعب على القادة الناجحين تغيير أنفسهم؟ (جزء3)
القادة وتوهّمات النجاح
يمتلك القادة الناجحون أربعة معتقدات تدفعهم في الطريق إلى المنجزات ولكنّ هذه المعتقدات ذاتها تتحوّل إلى توهّمات تمنع القائد الناجح من تغيير نفسه وترقية سلوكه والوصول إلى مستوياتِ نجاح أرقى يمتلك مؤهلاتها.
تناولنا في الجزأين الأوّل والثاني الاعتقادات الأربعة، واختتمنا بالحديث عن مبدأ التنافر المعرفي cognitive dissonance الذي يلعب دوراً في التفسير السيكولوجيّ لتملّص البشر من رؤية الوقائع المخالفة لاعتقاداتهم.
ونتابع الآن مع:
توهّمات النجاح: كيف تجعل تفكيرنا خرافياً؟
تتغلغل التوهّمات الأربعة المرافقة للنجاح في أعماقنا وتوجِد في أنفسنا شيئاً نرفض التصديق بوجوده لدينا. إنّ توهّمات نجاحنا ليست في الحقيقة إلاّ صورةً من التفكير الخرافي Superstition.
وأكاد أسمعك عزيزي القائد الناجح تقول: “من؟ أنا! أنا إنسان متعلّم ومنطقيّ ولست خرافياً!”
أجل، قد يمكننا تبرئة أنفسنا من الخرافات الطفولية القديمة مثل التشاؤم من نحس المرور تحت سلّم، أو كسر مرآة، أو جري هرة سوداء معترضةً طريقك. ويهزأ كثيرٌ منّا يهزأ بالخرافات بوصفها معتقداتٍ سخيفة لدى البدائيين أو غير المتعلّمين، ونؤكّد لأنفسنا أننا بعيدون جداً عن هذه المفاهيم المضحكة.
لكن مهلاً! مهلاً! إنّ لدى كل منّا درجةً من التفكير الخرافيّ. وفي كثير من الأحيان تتصاعد خرافية الإنسان مع تصاعد موقعه في الهرم التنظيميّ الجليل.
من منظور علم النفس ينشأ السلوك الخرافي من اعتقادنا بأنّ فعلاً معيناً من أفعالنا يعقبه تعزيز إيجابيّ positive reinforcement هو حقاً السبب في حصول ذلك التعزيز.
قد يكون فعلنا هذا هادفاً وقد يكون غير هادف. أو فلنقل قد يكون الفعل مؤثراً على شيء أو على شخص أو قد يكون منعزلاً ولا غاية واضحة له. لكن إن حدث شيءٌ مستحسن بعد قيامنا بهذا الفعل فإننا نوجد علاقة بين الأمرين.
ومن خلفيتي في دراسة الرياضيات باكراً في شبابي، فإنني أعرّف التفكير الخرافيّ بلغة الرياضيات على أنّه تخليطٌ بين الارتباط correlation وبين السببية causality.
في تجاربه، أوضح الباحث السيكولوجي سكينر B. F. Skinner كيف تنهمك الحمائم الجائعة في تكرير اهتزازات عديمة المغزى بعد أن تبعَ تلك الاهتزازات بالمصادفة المحضة- حبات طعام منثورة. وبكثيرٍ من الشبه مع هذه الحالة، يمكن للقادة الناجحين أن يكرروا سلوكاً مضراً بهم وبأدائهم عندما يرون ذلك السلوك متبوعاً بحبّاتٍ كبيرة من الربح حتى لوكان ذلك السلوك منقطعاً عن أيّ صلة بالنتائج التي أدت إلى تلك الأرباح.
إن من أعظم التحديات التي أواجهها مساعدة القادة في تفهّم كيف أنّ تخليطهم بين “بسبب س حصل ج” وبين “مع وجود س حصل ج” قد يودي إلى “مصيدة التفكير الخرافي”.
كيف ننجز التغييرات التي نحتاج القيام بها؟
والآن عزيزي القائد دعنا نسلّط أضواء البحث عليك أنت. أجل، فكما تعلم لا يكاد ينجو من توهّمات النجاح أحدٌ من البشر. ضع يدك على أحد سلوكياتك المثيرة للإشكالات أوالمنفّرة، سلوكٍ تعرف أنّه يزعج الأصدقاء أو أفراد العائلة أو الزملاء، ثم اسأل نفسك:
ترى هل أستمر على هذا السلوك لأنني أعتقد أنّ له علاقة ما بالأمور الحسنة التي كانت تحصل لي؟
دقّق في الأمر بمزيد من التعمّق: (أ): هل يساعدك هذا السلوك في تحقيق نتائجك؟
(ب): أم هو أحد تلك الاعتقادات الخرافية غير العقلانية التي تمتدّ خيوط تحكّمها في حياتك عاماً بعد عام؟
إن كنت تجد السلوك في (أ) فهو سلوك “ بسبب س حصل ج ” العقلاني، وإن كنت تجده في (ب) فهو سلوك “مع وجود س حصل ج” الخرافيّ.
إنّ التغلّب على “توهّمات النجاح” يتطلّب يقظة واحتراساً وسؤال نفسك باستمرار:
هل سلوكي هذا سببٌ منطقي لنجاحي؟ أم إنني أخادع نفسي؟
الخطوة الأولى في تحقيق تغيير إيجابي للسلوك هي إدراك أنّ القادة الناجحين يصعب على أنفسهم التغيير نتيجة لكل الأسباب التي ذكرناها. وإدراك أنّ الاعتقادات التي مهّدت لك طريق الوصول إلى حيث أنت يمكن أن تكون هي نفسها عوائق تمنعك من المتابعة إلى حيث تريد.
تأمّل عزيزي القارئ: إنّ كل عملائي في مجال التدريب القيادي الشخصي personal coaching هم رؤساء تنفيذيون أو يستعدون كي يصيروا رؤساء في شركات كبيرة. ولا أتقاضى أجري إن لم يحقق العميل في سلوكه تغييراً إيجابياً قابلاً للقياس positive measurable change، ولا يقدّر حصول التغيير من قبل المتدرّب نفسه بل من قبل المتأثّرين الأساسيين المحيطين به.
إنّ هؤلاء القياديين الرفيعين أشخاص لامعون حققوا بالفعل نجاحاتٍ مثيرةً للإعجاب ويريدون المواصلة إلى ما هو أرقى. لكن بالرغم من كل ما لديهم من اندفاعٍ داخلي ومن مقدرات فإنّ كل واحدٍ من عملائي هؤلاء سيرى ويلمس لمس اليقين أن تغيير السلوك قد يكون أمراً بسيطاً واضحاً ولكنه لن يكون سهلاً على الإطلاق.
إذاً كيف يمكنك تحقيق تغيير إيجابي؟ كيف؟
- ازرع في نفسك عادة سؤال الأشخاص المحوريين في حياتك عمّا يرون من خطواتٍ ممكنةٍ لتحسّنك. استثمرهم في مساعدتك للمضي من حيث أنت (والذي قد يكون وضعاً ممتازاً بالفعل) إلى حيث تريد أن تكون (الوضع الأفضل).
- فلتعلم ولتتفهّم أنّ أوّل ما تميل إليه عندما يشير الناس إلى مواضع التحسين لديك هو الاعتقاد بأنّهم مخطئون أو أنّ رؤيتهم للوضع مشوّشة. فإيّاك أن تركن إلى هذا الاعتقاد.
وتقبّل حقيقة أنّ اعتقادك بنجاحك السابق وبحجم مشاركتك في فريقك غالباً ما يكون مبالغاً فيه. افترض جانب السلامة والصواب فيما يقوله لك الناصحون وإيّاك أن تتجاهل احتمال أن يكونوا هم المحقّين وأنّك أنت صاحب الرؤية المشوّشة. - واجه حقيقة أنّك لن تفلح في تغيير إلاّ ما اخترت تغييره وأنّ الدافعية motivation والالتزام بالتغيير commitment to change يجب أن تنبع من داخلك.
لقد سمعتُ مراتٍ كثيرة إد زندر الرئيس التنفيذيّ لشركة موتورولا Ed Zander, CEO of Motorola يعلّم قادته الواعدين القيمة الكبرى لتشجيع مشاركة الآخرين، وفي الوقت ذاته كنت أراه شديد الوضوح في تبيين أنه لا ينبغي صنع كل قرار بالتصويت أو بتحقيق التوافق. بل يجب على القادة أن يصنعوا القرارات.
بعد أن تنصت إلى معلومات وآراء من تحترمهم، لا تعمل إلاّ على تغييرات نفسك وسلوكك التي تعتقد أنّها صحيحة مفيدة لك ولمنظّمتك. يجب أن تكون رغبة التغيير نابعةً من داخلك أنت. - احترس من الإفراط في تعهّد الالتزامات. حافظ على عملية تغييرك إيجابية، بسيطة، مركزة، وسريعة.
تفهّم وتذكّر أن نزعتك الطبيعية ستكون نحو الاعتقاد بمقدرتك على القيام بأكثر مما تطيق فعلاً.
في السابق كنت أقترح على القادة انتقاء ناحيتين أو ثلاثاً من النواحي الأكثر حاجةً للتغيير في سلوكهم، كان ذلك أيام كنت شاباً ومثالياً، وأمّا الآن فإنني أقترح على القائد أن ينتقي ناحيةً تغيير سلوكي واحدة ويركّز على إنجاز التحسّن فيها. - ثابر على متابعة وتقييم تقدّمكّ بعيون وآراء من تحترمهم، وستجد نفسك تحقق تحسناً أكثر وأسرع.
أحد عملائي، جورج بورست، الرئيس التنفيذيّ لـِ “تويوتا للخدمات المالية” George Borst, the CEO of Toyota Financial Services كان ناجحاً جداً في تغيير السلوك فانتقى ناحيةً للتغيير هي: أن يصبح مدرباً راعياً للقيادات الجديدة coach أكثر فاعلية. وعندما جلسنا لنراجع النتائج الإيجابية من خلال زملائه في العمل اتخذ هذا القرار الرائع: إن كنت أريد استمرار تحسّني كقائد فلا بد لي من الاستمرار في العمل على أشياء كهذه طوال حياتي، أليس كذلك!
ومثلما قال الجنرال المحنّك -في بداية المقالة- مع ترقّيك في الرتب وحصولك على المزيد من الأوسمة والنجوم على كتفيك إيّاك أن تدع بريق هذه النجوم يبهر دماغك ويخدعه. تفهّم أن كل ترقية يمكن أن تعني زيادةً في صعوبة تغيير نفسك. وازن على الدوام بين الثقة التي جعلتك تصل إلى هنا –موقعك الحاليّ- وبين التواضع الذي يلزمك كي تصل إلى هناك، إلى الموقع الذي تملك إمكانيات التقدّم نحوه.
نقلا عن المقالة الأصلية: http://www.marshallgoldsmith.com/articles/the-success-delusion