أقلامأقلام عالميةالقيادةمارشال جولد سميث

لماذا يصعب على القادة الناجحين تغيير أنفسهم؟ (جزء2)

القادة وتوهّمات النجاح

يمتلك القادة الناجحون أربعة معتقدات تدفعهم في الطريق إلى المنجزات ولكنّ هذه المعتقدات ذاتها تتحوّل إلى توهّمات تمنع القائد الناجح من تغيير نفسه وترقية سلوكه والوصول إلى مستوياتِ نجاح أرقى يمتلك مؤهلاتها.
مررنا في الجزء الأوّل من هذه المقالة على الأسباب التي تجعل البشر (وخصوصاً القادة الناجحين) يستصعبون تغيير أنفسهم، وعرضنا التوهّم الأوّل: “لقد نجحت!”  ونتابع الآن مع:

الاعتقاد الثاني: أستطيع أن أنجح

يعتقد الناجحون أنّهم يملكون القدرة على إحداث تأثيرٍ إيجابيّ في العالم وعلى تحويل الطموحات إلى منجزات.
إنّ حالة الاعتقاد القويّ هذه لا تطابق ما يجري على المسرح في المهرجانات حين يقوم أصحاب المقدرات الذهنية الخارقة بتحريك الأغراض الموضوعة على الطاولة بأذهانهم، ولكنّها قريبة منه. والتوصيف الدقيق هو هذا:

يعتقد الناجحون أنّهم بالاعتماد على القوى الكامنة في شخصيتهم وموهبتهم وعقلهم وحسب يستطيعون تسيير أيّ موقف إلى الوجهة التي يريدون.

هذا الاعتقاد هو الذي يجعل بعض الناس يرفعون أيديهم قائلين “أجل! أدخلني في المشروع” عندما يطلب القائد متطوّعين، بينما يتوارى آخرون إلى الظلّ وهم يرجون ألا ينتبه لوجودهم أحد.

إنّ هذا الاعتقاد يجسّد التعريف التقليديّ السائد لـمفهوم “فاعلية الذات self-efficacy“، ولعلّه الاعتقاد المحوريّ الأكبر دوراً في تحقيق النجاح الشخصي. إن الناس الذين يعتقدون بمقدرتهم على النجاح سيرون فرصاً حيثما يرى الآخرون تهديدات. إنّهم لا يفزعون من الارتياب ولا من الغموض Uncertainty and ambiguity بل يقتحمونها اقتحاماً. إنّهم يقدمون على مخاطر أكبر ويحققون مكاسب أوفر. وحين يوضع أمامهم الخيار فإنّهم يختارون المراهنة على أنفسهم.

ويوجد لدى الناجحين أيضاً شعورٌ مرتفع بأنّ مركز التحكّم بمصيرهم يقع داخل أنفسهم  high internal locus of control. وبكلمات أخرى: لا يشعرون بأنهم ضحايا خاضعة لتقلبات الدهر القاهرة”. إنّهم يرون نجاحهم نتيجةً متعلّقة باندفاعهم ومقدرتهم وليس بالحظ أو بالصدفة. ويظلّون متمسّكين بهذه الرؤية حتى عندما يلعب الحظ فعلاً دوراً حاسماً في تحقيق نجاحٍ معيّن.

قبل سنوات، أراد ستةٌ من شركائي الدخول في تعاقدٍ ضخم. ولأنني كنت الشريك الأكبر فقد كانوا بحاجةٍ لموافقتي. كنت معارضاً لتلك العملية دون أي تردد وقلت لهم بصراحة إنّها فكرةٌ خرقاء، لكنني في النهاية وافقت مكرهاً متذمّراً. وبعد سبعة أعوام كان الربح الذي يأتيني من ذلك الاستثمار “الأخرق” عدداً هائلاً يكتب بأكثر من سبعة أرقام.
لم يكن هناك أيّ مجال لإرجاع الفضل في وقوع تلك الثروة عليّ إلى أيّ شيء سوى الحظّ المغمض عينيه.
لكن عندما ذكرت القصة لمجموعةٍ من الأصدقاء الناجحين لم يقبلوا برؤيتها على هذا النحو. لقد أصرّوا على أنّ تلك الثروة كانت ثمرةً مستحقةً عن جدارةٍ لسنواتٍ من العمل الجاد والمثابرة. إنّها الإجابة الافتراضية المتوقعة من الناجحين. ينزع الناجحون إلى الاعتقاد بأنّ الأرباح والمنجزات الكبيرة قد جرى اكتسابها بفضل اندفاع المرء ومقدراته، حتّى لو لم تكن هذه حقيقة الأمر فعلاً.

طبعاً، هذا الاعتقاد ليس منطقياً مثلما أنّه ليس منطقياً أن يرث أحدهم ثروة ضخمة ثمّ يعتقد بعد ذلك بأنّه عصاميّ صنع نفسه بنفسه. إن ولدتَ لتجد الكرة على قدمك والمرمى مفتوحاً أمامك فلا ينبغي لك أن تظنّ أنّك لعبت بمهارة وسجّلت هدفاً رائعاً بكل جدارة.

يعتقد الناجحون بأن هناك علاقة سببية بين ما كانوا يقومون به وبين النتائج التي جاءت بعد ذلك حتّى لو لم توجد علاقة سببية في الحقيقة. إنّ هذا الاعتقاد توهّمي مضلّل لكنّه دافعٌ محرّك أيضاً.

إنّ هذا الاعتقاد يبقى بالتأكيد خيراً من البديل المقابل في الطرف الآخر:

انظر مثلاً إلى من يعتادون شراء بطاقات اليانصيب (أو اللوتو). غالباً ما يكون هؤلاء من الناس الأقلّ نجاحاً. ومن هذا المنظور فإنّ مؤسسات اليانصيب المملوكة للدول تعمل كمؤسسات لجباية ضريبة عكسية تسحب من جيوب الفقراء.

إن كان أحدهم يعتقد أنّ النجاح تابعٌ للحظّ فلن يجد غضاضةً في اعتياد شراء بطاقات اليانصيب. والعكس صحيح، ولذلك فإنّك لا تكاد ترى ثرياً يضيّع ماله ووقته في شراء البطاقات وانتظار ما تجود به أرقام الحظ المخفيّة.

وتزداد الأمور سوءاً على سوء حين يربح أحد مدمني البطاقات فعلاً! وغالباً ما نراه يبدّد ثروته في زمن قصير جداً كأنّها لك تكن إلاّ حلماً، فها تعرف لماذا؟
نعم، لأن المعتقدات الخاطئة لدى هذا الشخص التي أوصلته إلى شراء البطاقات سيزيدها ربح الجائزة الكبرى تعزيزاً.

إنّ الناجحين يستبدلون “عقلية اليانصيب” هذه بإيمانٍ لا يتزعزع بأنفسهم. ولكنّ هذا الإيمان والثقة تشكّل عائقاً إضافياً يصعّب عليهم تغيير سلوكهم عندما يحتاجون إلى ذلك. عندما يملؤنا الاعتقاد بأنّ حظوظنا الطيبة والرياح المواتية التي تدفع سفننا كما نشتهي مرتبطةٌ ارتباطاً مباشراً وسببياً بسلوكنا فإننا يمكن أن ننزلق بسهولةٍ إلى وضع افتراضٍ زائف.
سيفترض أحدنا قائلاً لنفسه: أنا ناجح، وأنا أتصرف هكذا. إذاً: أنا ناجحٌ بسبب أنني أتصرف هكذا.

ولعلّه من أصعب التحديات مساعدة القادة الناجحين كي يدركوا أنّ نجاحهم يحصل في بعض الأحيان بطريقة تخالف النتائج المنطقية المتوقّعة لبعض تصرّفاتهم.

الاعتقاد الثالث: ولسوف أنجح دوماً!

الناجحون متفائلون، وكل من خاض ميادين العمل في المبيعات يعرف هذا القانون: (إن كنت تعتقد أنّك ستنجح فربما تنجح أو لا تنجح. لكن إن لم تكن تعتقد انّك ستنجح فبالتأكيد لن تنجح!) ويميل المتفائلون إلى الإفراط في تحمّل الالتزامات وقطع الوعود، لماذا؟ لأنّ واحدهم يعتقد بأنّه سيستطيع القيام بأكثر مما يطيق فعلاً.

وهكذا نرى الشخص الطموحٌ الذي تملأ وجدانه قناعة “سوف أنجح” يجد صعوبةً هائلةً في قول “لا” وترك الفرص المغرية التي تمرّ به. إنّ الأغلبية الساحقة من القادة الذين أتعامل معهم هذه الأيام يشعرون بازدحام ضاغطٍ أشدّ مما عهدوه في الماضي. لا يرجع هذا الازدحام الضاغط إلى أنّهم فاشلون، بل هم مشغولون شغلاً ضاغطاً لأنّهم فائزون. إنّهم يغرقون غرقاً في بحرٍ غامر من الفرص.

ربما تذكر عزيزي القارئ مرورك بهذه الحالة. في سياق عملك قد تحقّق إنجازاً رائعاً، وفجأةً تجد كثيراً من الناس يركضون نحوك ويرغبون في أن تكرّر لهم النجاح الخارق الذي صنعته لغيرهم. إنّهم يظنّون – وظنّهم منطقيّ جداً- أنّك إن اجترحت المعجزةً مرةً فيمكن أن تفعلها ثانيةً لأجلهم. يتدفق عليك سيل الفرص بغزارةٍ لم تعهدها من قبل، ولأنّك تحمل اعتقاد “سوف أنجح” ولأنّك تستصعب جداً قول “لا” للفرص فإنّك يمكن أن تغرق وتنهار. إن لم تكن حذراً فإنّ الأمر الذي جعلك تتقدّم وترتقي سيصير سبباً في سقوطك.

خذ هذا المثل الواقعيّ: ضمن عملي التطوّعي كان عميلي ذات مرة المدير التنفيذيّ لإحدى أهم منظمات الخدمات الإنسانية في العالم. كانت رسالته تقديم يد العون إلى أكثر الناس حاجةً وضعفاً، ولسوء الحظّ فقد كانت أبواب العمل مفتوحةً عليه من كل جانب. عندما يأتيه الناس طالبين العون لم تكن نفسه تطاوعه على ردّ أحد بكلمة “لا”. كانت الأمور تجري مدفوعةً باعتقاده “سوف ننجح”، ونتيجةً لذلك تورّط بتعهّداتٍ لا يطيق الوفاء بها أكثر طواقم العمل إخلاصاً واجتهاداً.
لقد كان المطلب الأشد تحدياً أمامه كقائد هو: منع تفاؤله الذاتي من التسبب في إجهاد العاملين معه إلى حدّ “الاحتراق النفسي burnout“، أو دفعهم إلى المغادرة والاضطرار إلى استبدالهم، أو عجز المؤسسة عن القيام بالتزاماتها.

إنّ عقلية وموقف “أستطيع النجاح في هذا!” يمكن أن تقضي على فرص نجاحنا بالتغيير عندما نصل إلى أوقاتٍ ينبغي فيها تغيير سلوكنا.

وبسبب إدراكي عسر تغيير السلوك هذا فإنني لا أخفي أبداً ولا أتحرّج من اهتمامي المفرط بمتابعة الأمور مع عملائي للتأكّد من أنّهم ينجزون ما أعلّمهم وأنصحهم ويحققون تغييراً إيجابياً في سلوكهم.
ينوي كل المشاركين في برامج تدريبي القياديّ تطبيق ما تعلموه عندما يرجعون إلى شركاتهم، ويقوم معظمهم بذلك فعلاً ويتحسّنون، لكن هناك أيضاً كثيرون لا يفعلون شيئاً على الإطلاق بما تعلموه، ويبقون على الحال نفسه يوماً بعد يوم.
وعندما اسأل هؤلاء “القاعدين” لماذا لم تقوموا بالتغييرات السلوكية التي أعلنتم عزمكم عليها؟ فإنّ الجواب الأعم هو: لقد عزمت على ذلك فعلاً، لكن لم يتح لي الوقت. وبكلمات أخرى كانوا غارقين في التزامات تتعدّى طاقتهم.
إنّهم يعتقدون صادقين بأنّهم سيقومون بذلك فيما بعد لكنّ “فيما بعد” هذه لم تأتِ أبداً.

إنّ تفاؤلنا المفرط وما ينجم عنه من إسراف في تحمّل الالتزامات يمكن أن يصبح عقبةً في وجه تغييرنا لا تقل خطورةً عن خطورة إنكارنا وتعامينا عن التغذية الراجعة التي تكشف نقاط ضعفنا، أو خطورة اعتقادنا بأنّ مسالكنا العوجاء وثغراتنا هي سبب نجاحنا.

الاعتقاد الرابع: أنا اخترت أن أنجح

يعتقد الناجحون أنهم يقومون بما يختارون القيام به لا لشيء سوى أنّهم يختارون القيام به. تملؤهم حاجة داخلية قوية إلى تقرير مصيرهم بأنفسهم self-determination.
عندما يقوم الإنسان بما يختار القيام به فهذا إنسان ملتزم committed لكن عندما يقوم بما يجب عليه القيام به فهذا إنسان مُطيعٌ ممتثل compliant.

الفرق بين الالتزام والامتثال واضح يمكن للطفل الصغير أن يراه. وأنا كاتب هذه السطور المغرم بالتدقيق والسؤال ألاحظ أيضاً أنّ بعض المعلّمين يختارون مهنة التعليم اختياراً (يحبّون أن يعلّموا) وبعضهم يقومون بها لكسب الرزق وحسب، وأنّ أفضل المعلمين دون شك هم الفئة الأولى. إنّهم ملتزمون ذاتياً تجاه تلاميذهم وليسوا محكومين مسيّرين بعوامل خارجية (الأجر الشهريّ).

يتميّز الناجحون بنفورٍ شديد من رؤية أنفسهم واقعين تحت تحكّم أو تسيير خارجي، وإنني أرى هذا الأمر يومياً من خلال عملي. فرغم الدعم الهائل الذي أتلقاه سلفاً بوصفي إنساناً معروفاً بمقدرته في مساعدة الآخرين على التقدّم فإنني ما أزال ألاقي مقاومةً لدى من أريد مساعدتهم. وهكذا فإنّك تراني الآن متقبّلاً لحقيقة أنني لا أستطيع جعل الناس يتغيّرون. وكل ما أستطيع فعله هو: مساعدتهم في تحقيق نتائج أفضل في الأمور التي يختارون العمل على تغييرها.

لقد كتب مدرّب كرة السلة ريك بيتينو كتاباً بعنوان “النجاح اختيار Success Is a Choice ” وأنا أوافقه على هذا، وأقول إنّ اعتقاد “اخترت أن أنجح” يرتبط بتحقيق المنجزات في كل الميادين. الناس لا يتعثّرون بالنجاح مصادفةً بل يختارونه اختياراً.

ولسوء الحظ فإنّ جعل الناجحين القائلين “اخترت أن أنجح” يقولون “واخترت كذلك أن أتغيّر” ليس بالتحوّل اليسير أبداً. إنّه يعني قلب ذلك الالتزام القويّ رأساً على عقب. كلماتٌ سهلٌ قولها صعبٌ تحقيقها. فكلّما اعتقدنا أن سلوكياتنا هي نتيجةٌ لاختياراتنا والتزاماتنا كلّما تضاءلت فرصة إقبالنا على تغيير تلك السلوكيات.

يوجد سببٌ مفهومٌ لهذه الصعوبة، وهذا السبب هو مبدأ من أكثر المبادئ تلقياً للاهتمام والبحث في علم النفس: إنّه التنافر المعرفيّ cognitive dissonance. يشير هذا التنافر المعرفيّ إلى التعارض بين ما نريد أن نعتقد وبين ما نختبر فعلاً في عالم الواقع. والنظرية الأساسية وراء هذا المبدأ بسيطة: كلّما اشتدّ توقنا إلى الاعتقاد بصحة شيء كلّما تضاءل احتمال تصديقنا بصواب عكسه، حتّى لوكان ذلك في مواجهة أدلة واضحة تبيّن أننا مخطئون.

في العادة، يعمل التنافر المعرفيّ لمصلحة الناجحين عندما يطبقونه على تحقيق رسالتهم. فكلّما ترسّخ توقنا والتزامنا بتصديق أننا على الطريق الصحيح، كلّما تضاءل احتمال تصديقنا باختلال إستراتيجيتنا، حتّى في حضور أدلّة أولية تشير إلى احتمال خطئنا.

إلى هذا السبب يرجع صمود الناجحين صموداً لا يعرف الانثناء أو التردّد في أوقات الشدائد. إن التزامهم بأهدافهم ومعتقداتهم يتيح لهم مشاهدة الواقع عبر نظّاراتٍ وردية، وهذا أمر حسن في كثير من المواقف. إن التزامهم يلهم الناس على الاستمرار في المسيرة وعلى المضيّ قدماً مهما توعّرت الطريق.

وبالطبع، فإنّ هذا المبدأ نفسه يمكن أن يعاكس مصلحة الناجحين في فترات احتياجهم إلى تغيير المسار. إن المقولة الذائعة “المنتصرون أبداً لا يتراجعون” كثيراً ما تكون صحيحة، لكن في بعض الأحيان يصبح ضرورياً جداً تراجع الناس -حتى الناجحين منهم- عن أساليب تصرف غير نافعة، والتراجع شديد الصعوبة على الناجحين!

في الجزء التالي والأخير نتابع مع البروفيسور غولدسميث:
توهّمات النجاح كيف تجعل تفكير القادة الناجحين خرافياً؟
وكيف ننجز التغييرات التي نحتاج إلى القيام بها؟

نقلا عن المقالة الأصلية: http://www.marshallgoldsmith.com/articles/the-success-delusion/

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى