لماذا يصعب على القادة الناجحين تغيير أنفسهم؟ (جزء1)
القادة وتوهّمات النجاح
عزيزي القائد الناجح، إن ما أوصلك إلى هنا لن يوصلك إلى هناك!
عندما نتفهّم العوامل التي تجعل تغيير السلوك شديد الصعوبة على القادة الناجحين سنكون أكثر مقدرةً على إنجاز التغييرات التي تلزمنا لنصير أكثر نجاحاً.
يمتلك القادة الناجحون أربعة معتقدات تدفعهم في الطريق إلى المنجزات ولكنّ هذه المعتقدات ذاتها تتحوّل إلى توهّمات تمنع القائد الناجح من تغيير نفسه وترقية سلوكه والوصول إلى مستوياتِ نجاح أرقى يمتلك مؤهلاتها.
نرجو لك مواجهة شجاعة للتوهمات المرافقة للنجاح، ورحلة استكشاف عميقة ومفيدة لنفسك وسلوكك القيادي
إن كل إنسان –بل وكل مخلوق آخر- ينزع إلى تكرير السلوك الذي يتبعه معزّز (اقرأ عن: تعزيز السلوك).
مع تواصل نجاحنا فإننا نحصل المزيد ثم المزيد من التعزيزات الموجبة positive reinforcement ومن ثم فإننا نصير أكثر قابلية للغرق في مصيدة التوهّمات المرافقة للنجاح success delusions.
يقول المرء لنفسه: إنني أتصرّف على هذا النحو. وأنا ناجح. إذا: بالتأكيد أنا ناجحٌ لأنني أتصرف على هذا النحو.
لكنّ هذا غير صحيح! وإليكم التفسير:
مع صعود الإنسان في سلّم المناصب في المؤسسة يزداد إقبال موظفيه على إحاطته بأفضل التصورات عن نفسه وجعله يشاهد مرةً بعد مرة كم هو رائع! يكاد كلّ تصرّف نقوم به أن يتبعه معزّز إيجابيّ، حتى لو كان تصرّفاً تافهاً.
ذات مرّة كنت استمع على مائدة العشاء إلى ضابط عسكريّ كبير يتبادل التجارب والملاحظات مع جنرال آخر جديد الدخول في تلك الرتبة. قال الضابط المخضرم لزميله الجنرال الجديد: هل لاحظت مؤخراً كم أصبحت طرفك رائعة الذكاء مؤثرةً فلا يملك المستمعون جميعاً إلاّ أن يضحكوا من أعماقهم؟
وهل لاحظت كيف يهز الجميع رؤوسهم استحساناً وتأييداً لكل كلمة حكمة تجود بها؟
قال الجنرال الجديد: في الحقيقة.. أجل لاحظت ذلك؟
فضحك الجنرال المخضرم وقال: اسمح لي يا صديقي أن أمد لك يد العون هنا! نكتك ليست بتلك الطرافة، وحكمك ليست بذلك العمق والقيمة. بل إنّها النجوم التي علي كتفيك! إيّاك يا عزيزي أن تخلط بين الأمور وتترك نشوة تلك المظاهر تسيطر في دماغك.
كلّنا نحن البشر يريد أن يسمع الكلمات التي يهوى سماعها. نريد تصديق تلك العبارات الرائعة التي يخبرنا بها العالم عن أنفسنا. إنّ إيماننا الواثق بأنفسنا يساعدنا في تحقيق النجاحات، ولكنّه من جانب آخر قد يجعل التغيير شديد الصعوبة علينا.
وكما قال الجنرال المخضرم: في الحقيقة، لسنا أذكياء خفيفي الظل ولسنا حكماء جداً كما يحلو لنا أن نعتقد. بإمكاننا جميعاً أن نرتقي ونتحسّن حين تتوفر لدينا إرادة النظر في أنفسنا نظراً تشخيصياً نزيهاً. عندما نتفهّم العوامل التي تجعل تغيير السلوك شديد الصعوبة على القادة الناجحين سنكون أكثر مقدرةً على إنجاز التغييرات التي تلزمنا لنصير أكثر نجاحاً.
لماذا نقاوم التغيير؟
قبل سنوات استخدمت شركة UNUM للتأمين إعلاناً يظهر فيه دبّ بنّي واقفاً على رأس جدولٍ متدفّق، يمد الدبّ الصياد عنقه متأهباً، يفغر فاه ليظهر بريق أنيابه الحادة ويوشك أن يطبق فكّيه على سمكة سلمون تقفز صعوداً عبر الشلال.. ويقول الإعلان تحت الصورة: قد تشعر بأنّك هذا الصيّاد.. وأمّا نحن فنقول انتبه قد تكون أنت سمكة السلمون!
كان الإعلان موجهاً لترويج خدمات تأمين إعاقات الحوادث، ولكنّه وقع في ذهني موقعاً مختلفاً مؤثّراً فقرأته كبيانٍ بليغ يعبّر عن خداع أنفسنا بالتوهّمات المرتبطة بمنجزاتنا أو مناصبنا أو مساهماتنا، فترانا في كثير من الأحيان:
- نبالغ في تقدير مساهمتنا في مشروع معيّن.
- نغالي في تقدير مهاراتنا الاحترافية وموقعنا النسبي بين زملاء العمل.
- نضخّم تأثير مشروعنا على ربحية الشركة عن طريق تجاهل بعض التكاليف الظاهرة أو الخفيّة.
ينجمُ كثيرٌ من توهّماتنا عن ربط أنفسنا بالانتصارات والنجاح وليس بالهزائم والفشل. وبما أننا نتلقى تعزيزاً إيجابياً من نجاحاتنا السابقة فإننا نعتبرها مبشّرات بمزيدٍ من الإنجازات العظيمة في مستقبلنا.
إنّ حقيقة ميل الناجحين إلى الوقوع في التوهّمات ليست بالشرّ المطلق، فاعتقادنا القويّ بأننا رائعون ممتازون يمنحنا الثقة بالنفس. حتّى لو لم نكن في مستوى الجودة الذي نظن أنفسنا فيه، فإن هذه الثقة تعيننا بالفعل على أن نصبح في حالٍ أفضل ما كان لنا أن نبلغها لولا إيماننا بأنفسنا.
أجل، إنّ أكثر الناس واقعية في العالم قد يكونون خالين من التوهمات ولكنهم سيكونون مملوئين بالهمّ والإحباط.
رغم أنّ التوهمات المولّدة لثقتنا بأنفسنا تدفعنا إلى الأمام في تحقيق المنجزات فإنّها قد تصعّب علينا التغيير. وبسببها ترى في الحقيقة أننا ننظر إلى آراء الآخرين باستغراب تام عندما يقترحون حاجتنا إلى التغيير.
إنّنا نمارس ردّ فعل مثيراً للاهتمام يتكوّن من ثلاث مراحل:
◄أولاً: نحن مقتنعون بأن الطرف الآخر بحاجةٍ إلى مسح نظارته، أو استكمال معلوماته، إنّه لا يعرف عمّاذا يتحدث. وهو بالتأكيد يخلط بيننا وبين أحدٍ آخر يحتاج للتغيير حقاً.
◄ثانياً: بعد أن يتبين لنا أنّ الطرف الآخر ليس مغفلاً ويعرف عمّاذا يتحدث –ويطفو احتمال أنّ معلوماته عن الثغرات التي يتصوّر وجودها لدينا قد تكون صحيحة- فإننا نسلك طريق الإنكار. (اقرأ عن الإنكار denial) يقول المرء لنفسه: قد يكون هذا النقد صحيحاً، لكن ليس للأمر كلّه أهمية تذكر وإلاّ فكيف تمكنّا من تحقيق ما نحن عليه من نجاح؟
◄ثالثاً وأخيراً: عندما يفشل كل شيء فإننا نلجأ إلى مهاجمة الطرف الآخر، نلجأ إلى التشكيك في أهلية حامل الرسالة التي لا نريد قراءتها. يقول أحدنا “لماذا ينبغي على ناجحٍ مثلي الإنصات إلى فاشلٍ مثلك؟”
إنّ هذه مجرّد عينة صغيرة وحسب من استجاباتنا الكثيرة الجاهزة التي نواجه بها ما لا نريد سماعه (آليات الإنكار denial mechanisms). والآن اجمع آليات الإنكار هذه مع التفسير المفرطة في الإيجابية الذي يسبغه الناجحون على:
أ- أدائهم الماضي.
ب- مقدرتهم على صنع النجاح أو تهيئة ظروفه (وليس أنّهم كانوا محظوظين بظروف مواتية).
ج- اعتقادهم المتفائل باستمرارية نجاحهم في المستقبل
د- إحساسهم المبالغ فيه بالسيطرة على مصيرهم (بدلاً من الخضوع للعوامل الخارجية).
اجمع ذلك كلّه وسيكون لديك كوكتيل مقاومةٍ للتغيير حساس جاهز للاشتعال عند أصغر صدمة.
إنّ معتقداتنا الإيجابية القوية حول أنفسنا تساعدنا لنصبح ناجحين، وهذه المعتقدات ذاتها يمكن ان تجعل التغيير شاقّاً على أنفسنا. إن المعتقدات التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه – إلى مستوى نجاحنا الحاليّ- يمكن أن تعيقنا عن القيام بالتغييرات اللازمة للمضيّ إلى هناك، إلى المستوى التالي الذي نحن مؤهّلون لبلوغه.
الاعتقاد الأوّل: لقد نجحت
يوجد لدى الأشخاص الناجحين فكرة واحدة مستمرة لا تتوقف عن التدفق في شرايينهم وأعصابهم: “لقد نجحت.. لقد نجحت..” إنّ هذا الإيمان القويّ بنجاحنا الماضي يمنحنا الإيمان الدافع لاقتحام المخاطرات اللازمة لنجاحنا في المستقبل.
قد تظن عزيزي القائد أنّ هذا القول لا ينطبق عليك، أو تظنّ أنّ ما نتحدث عنه مجرّد فورةً اعتداد بالنفس تنفجر في لحظات توتّر صعبة. لكن تمهّل وانظر في نفسك:
كيف تمتلئ بالثقة لتستيقظ صباح الغد وتندفع إلى عملك اندفاعاً وكلّك تفاؤل وإقبال على المنافسة؟
إنّ هذا لا يحدث بسبب مداومتك على تذكّر العثرات التي ارتكبتها والورطات الثقيلة التي نجوت منها على الحافّة. بل بالعكس تماماً، إنّه يحدث بسبب عمليات المونتاج التي تقصّ الأخطاء وتعيد وتكرّر مقاطع نجاحاتك المبهرة.
إن كنت كبقية البشر الناجحين الذين أعرفهم، فتركيزك منصرف إلى الإيجابيات، وإلى استدعاء صورٍ ذهنية لنفسك في مواقف كنت فيها أنت النجم الذي يبهر الجميع ثم يتربّع على القمّة. قد يكون الموقف تلك الدقائق الخمس في الاجتماع التنفيذي الرفيع حيث تملّكت الميدان تملّكاً فقدّمت أفكارك ومقترحاتك وبرهنت عليها بطريقة رائعة لا مجال لمقابلتها إلاّ بالتأييد (ومن منّا نحن البشر لا يدور في نفسه شريط الإعجاب المبهر فيرى نفسه موضوعاً محورياً ترافقه الأضواء والموسيقى الحماسية المعبّرة وكأنّه خبر الساعة الرياضيّ؟) وقد يكون تقريرك المنحوت حرفاً حرفاً وكلمةً كلمة فامتدحه الرئيس وعمّمه على كل من في الشركة (ومن منا يملّ من تشنيف أذنيه وأذني الآخرين بقراءة هذا التقرير في كل وقت متاح؟)
عندما تؤدّي أفعالنا إلى نهاياتٍ سارّة وتظهرنا بمظهر حسن فإننا نعشق كرّ شريطها مرّة بعد مرة داخل رؤوسنا.
ولو سألنا عن الأفكار التي يحتفظ بها الناجحون داخل رؤوسهم فماذا سنجد؟ نعم إننا لا نحتفظ بما يصغّرنا أو يضغطنا بل نحن نحتفظ بما يكبّرنا أو ينفخنا ويدفعنا. وهذا شيءٌ جيد! فمن دونه لن ننهض من أسرّتنا كلّ صباح ممتلئين نشاطاً وحماساً.
ذات مرة، تحدّثت في هذا الموضوع مع لاعبٍ كبير يشارك في بطولات البيسبول الكبرى. ومما قاله لي:
لدى كلّ ضارب رامون محدّدون تلاحظ كثرة نجاحه في ردّ الكرات التي يرمونها. عندما أواجه رامياً كنت أنجح في الماضي في ضرب كراته فإنني أتقدم إلى موقع الضرب وأنا أقول في نفسي (رائع.. وهذا فتىً هزيمته في يدي!) إنّ هذا يملؤني بالثقة.
إنّ هذا ليس مستغرباً. فالماضي لدى الناجحين يتكوّن من حوارات وردية مشرقة يجرونها مع أنفسهم، ولاعبنا المحترف مضى بهذا خطوةً إضافيةً إلى الأمام. فحين سألته: وماذا عن الرماة الذين لم تعتد على النجاح في ضرب كراتهم؟ كيف تتعامل مع رامٍ يعتقد أنّ “هزيمتك في متناوله”؟
– بالطريقة ذاتها! أمضي إلى موقع الضرب وأنا أفكّر بأنني: سأهزم هذا الفتى. لقد فعلت هذا في مواجهة رماةٍ أفضل منه بكثير.
بكلماتٍ أخرى، لم يكتف صاحبنا اللاعب المحترف بالارتكاز على ماضي نجاحاته المشرق لصيانة موقفه الواثق المتفائل، بل ارتكز عليه أيضاً حتّى عندما لم يكن أداؤه الماضي مشرقاً كل الإشراق، وكانت الوقائع الحاضرة تناقض ثقته بنفسه.
إن الناجحين لا يشربون من كأس نصف فارغة!
وعندما يكون الإنجاز ثمرة عمل جماعي، وليس مجرّد أداء فرديّ، فإننا نميل إلى تعظيم مساهمتنا في النصر النهائي.
ذات مرة، طلبت من ثلاثة شركاء أن يقدّروا حصّة مساهمتهم في ربحية الشراكة. ولم أستغرب حين وجدتُ مجموع إجاباتهم يربو على 150% من الربحية الفعلية. لقد كان كل واحدٍ من الشركاء الثلاثة يعتقد بأنّ مساهمته وحده تساوي أكثر من خمسين بالمئة!
إنّ هذه المغالاة في تقدير نجاحنا الماضي حقيقة واقعة في أيّ مكان عمل تقريباً. فلو سألت زملاءك (عبر استطلاع مكتوم الأسماء) عن تقديرهم لنسبة مساهمتهم في نجاح مؤسستكم فستجد مجموع النسب النهائيّ يتخطّى المئة بالمئة بكثير. لا بأس في هذا (بل لو كان المجموع أقل من 100% فربما تكون بحاجة إلى زملاء جدد!)
إنّ قناعة “لقد نجحت” ذات الأثر الإيجابيّ في معظم الأحوال، هذه القناعة ذاتها يمكن أن تتحول إلى عقبة كبيرة مانعة عندما يحتاج الإنسان إلى إنجاز تغييرٍ في سلوكه.
في معظم الأحوال يبالغ الناجحون في تقدير أنفسهم بالمقارنة مع تقدير زملائهم.
سألت أكثر من خمسين ألف مشارك في برامجي التدريبية أن يقدّروا ترتيباً لأنفسهم من ناحية الأداء بالمقارنة مع بقية زملائهم المحترفين. والنتيجة؟ وضع نحو 80- 85% أنفسهم في شريحة العشرين بالمئة العليا من مجموعة الزملاء الذين يعملون معهم. ووضع نحو 70% أنفسهم في شريحة العشرة بالمئة العليا. ويغدو الرقم أكثر إثارةً للسخرية عند طرح السؤال بين المحترفين من ذوي المكانات الاجتماعية الراقية كالأطباء وملاّحي الطائرات والتنفيذيين في البنوك الاستثمارية.
ولعل الأطباء هم الأكثر إغراقاً في هذا التوهّم. فذات مرة، قلت لمجموعة من الأطباء إنّ بحثي المعمّق قد بيّن بجلاء أن نصف الأطباء جميعاً قد تخرّجوا وهم في النصف الأدنى من صفوف كلّياتهم. ولقد أصرّ اثنان من الأطباء الذين كنت أحدّثهم على أنّ ما أقوله مستحيل!
نميلُ جميعنا نحن البشر إلى تقبّل تغذية الآخرين الراجعة المتفقة مع الصورة التي نرى أنفسنا عليها. ونميل جميعنا إلى رفض أو إنكار التغذية الراجعة المتعارضة مع رؤيتنا لأنفسنا.
يمتلئ الناجحون فخراً ورضا عندما ينظرون إلى أدائهم الماضي. والخبر السعيد هو أنّ سجلات الماضي الوردية الإيجابية هذه تبني ثقتنا بأنفسنا self-confidence وتلهمنا مواصلة السعي نحو مزيد من النجاح. وأمّا الخبر المزعج فهو أنّ تصوّرنا التوهّميّ لأنفسنا يمكن أن يصعّب علينا الاستماع إلى التغذية الراجعة السلبية والإقرار بحاجتنا إلى التغيير.
نقلا عن المقالة الأصلية : http://www.marshallgoldsmith.com/articles/the-success-delusion/