لمعالجة الفساد الإداري في مؤسستك انتبه!
لمعالجة الفساد الإداري في مؤسستك انتبه!
السمكة تتعفن من الرأس أولاً، والوقاية خير من العلاج
مهيوب خضر
الفساد الإداري والمالي حالة مرضية أصبحت أشهر من نار على علم في كثير من المؤسسات وعلى مستوى الدول، في وقت كثر فيه السؤال عن العلاج وازدادت الحيرة عن اتجاه انتشار هذا المرض هل هو من القاعدة إلى القيادة أم من القيادة إلى القاعدة!.
ومع إلقاء نظرة سريعة على تقارير منظمة الشفافية العالمية المعنية بقضايا الفساد الإداري، نجد أن دولاً إسلامية، مع الأسف، باتت تتربع على رأس الدول الأكثر فساداً في العالم وسط فهم خاطئ للعلاقة بين الفساد – إدارياً كان أو مالياً – والفقر.
تؤكد الدراسات العلمية الحديثة في مجال مكافحة الفساد أن الفقر الذي تعاني منه معظم دول العالم اليوم إنما هو نتيجة للفساد الإداري وليس سبباً له، ففي حال فقدان مبالغ طائلة من الأموال العامة بطرق غير مشروعة لصالح أشخاص متنفذين يعدون أحيانا على أصابع اليد الواحدة فإن ذلك يؤثر سلباً بطبيعة الحال على مستوى حياة الشعب الاقتصادية ويحولها إلى مأساة يتخيل البعض أنها من النوع الذي لا علاج له.
اليابان دولة بلا موارد ومع ذلك فقد صنعت معجزه بتصدرها أكبر الدول الصناعية في العالم، وذلك ليس فقط من خلال التكنولوجيا التي ابتكرتها وإنما عبر اعتمادها لنظام إداري دقيق خال من الفساد الإداري، يكفل تحفيز كل موظف في الدولة بعينه عبر توزيع عادل للأجور والمكافآت المالية، وفي المقابل دولاً عربية وإسلامية تمتلك موارد بشرية ومادية هائلة تعيش في دوامة الفقر، لا تعرف كيف تتخلص منه.
إن إدراك خطر وباء الفساد الإداري وتشخيص أعراضه، والبحث في سبل علاجه لا يحتاج منا نحن المسلمون ذلك الجهد الذي نبعثره اليوم في اتجاهات غير مجدية بحثاً عن الحل، فقد وضع لنا الخليفة عمر بن الخطاب منهجاً علمياً مجرباً لمكافحة الفساد الإداري والمالي، استوحاه من تعاليم الإسلام وسيرة المصطفى محمد “صلى الله عليه وسلم”، وكانت النتيجة أن عم الخير على الجميع بلا استثناء.
عندما ترفع منظمة الشفافية العالمية شعار (السمكة تتعفن من الرأس أولاً)، فإن هذه البداية في علاج مرض الفساد لم تغب عن مفردات منهج عمر بن الخطاب قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام.
كلمة سجلها التاريخ بماء من ذهب قالها سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوماً ما مادحاً سياسة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مكافحته لوباء الفساد الإداري، حيث قال له : (عففت فعفت رعيتك، ولو رتعت لرتعت).
هذه هي القاعدة الذهبية في مكافحة خلايا وباء الفساد الإداري الذي ينخر يوماً بعد يوم في هياكل المؤسسات فيدمرها ويصدع أسس بناء الدول فيجعلها قابلة للسقوط في أي لحظة.
لقد ذهبت الإدارة العمرية عبر التاريخ مثالاً يحتذي وهي تؤصل مبادئ قامت عليها دولة الإسلام وقوانین طبقها الخليفة على نفسه قبل غيره، فغدت خلافة الإسلام في عهد عمر بن الخطاب وغيره من الخلفاء أرضاً خاليةً من وباء الفساد.
أدرك الخليفة عمر بن الخطاب أطراف معادلة الفساد الإداري خير إدراك وعرف نقطة البداية فألزم نفسه بها خير إلزام، فمنذ اليوم الأول لخلافته دعا إليه أفراد أسرته فقال لهم: (إن الناس ينظرون إليكم كما ينظر الطير إلى اللحم, فإذا وقعتم وقعوا، وإن هبتم هابوا، وإني والله لا أوتى برجل منکم وقع فيما نهيت الناس عنه إلا ضاعفت له العذاب لمكانه مني).
ونلاحظ هول ورهبة الموقف وخطاب الخليفة يحوي قسماً لا يحمل بين طياته إلا جدية التنفيذ بمضاعفة العقوبة على كل من تسول له نفسه من أهل بيته النيل من مال المسلمین بغير حق ومخالفة قوانين الخلافة المبنية على العدل في توزيع الأموال العامة.
-
الإدارة العمرية
ارتقت سياسة الخليفة عمر بن الخطاب في مكافحته للفساد الإداري لحد التورع عن الشبهات مهما كلفه هذا الأمر من مشقة تكدر صفو العيش، فها هو يقسو على نفسه ويقدر له ولعائلته من بيت مال المسلمين ما لا يكاد يفي بمتطلبات الحياة، وقد لا يفي أحياناً، فيما كان هو قبل توليه خلافة المسلمين صاحب تجارة تكفيه وتكفي عياله!
هذه الحالة التي آل إليها أمر معيشة الخليفة أرق مجموعة من كبار الصحابة وهم علي وعثمان وطلحة والزبير، فجاءوا إلى أم المؤمنین حفصة بنت عمر بن الخطاب وأشاروا عليها أن تحدث أباها أمير المؤمنين في زيادة ما يتقاضاه مشيرين إلى أن المغانم بحمد الله كثيرة وبيت المال عامر، بعد سلسلة من الفتوحات التي من الله بها على المسلمين في عهد عمر.
فلما كلمته حفصة في ذلك غضب وسألها عمن أشار عليها بما قالته، فقالت: لا سبيل إلى علمهم، ثم قال: يا حفصة قولي لهم إن مثلي ومثل صاحبي كثلاثة سلكوا طريقاً، فمضي الأول وقد تزود فيلغ المنزل، وتبعه الثاني فسلك طريقه فأفضى إليه، ثم أتبعه الثالث فإن لزم طريقهما ورضي بزادهما لحق بهما، وإن سلك غير طريقهما لم يدركهما.
لقد أنزل الفاروق عمر نفسه من بيت مال المسلمين منزلة ولي اليتيم، فها هو يقول: (ألا إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة ولي اليتيم، إن استغنيت استعففت، وان افتقرت أكلت بالمعروف). يخرج عمر بن الخطاب يوماً إلى السوق في جولة تفقدية ليرى إبلاً سماناً تمتاز عن بقية الإبل بنموها وامتلائها، فيسأل: إبل من هذه؟ فيجاب: إبل عبد الله بن عمر. وينتفض أمير المؤمنين وكأن القيامة قامت فيقول: عبد الله بن عمر!!.. بخ بخ يا ابن أمير المؤمنين، وأرسل في طلبه من فوره، وأقبل عبد الله يسعي وحين وقف بين يدي والده قال لإبنه: ما هذه الإبل يا عبد الله؟ فأجاب: إنها إبل أنضاء – أي هزيلة- اشتريتها بمالي وبعثت بها إلى الحمى- أي المرعى- أتاجر فيها وأبتغي ما يبتغي المسلمين، فعقب عمر في تهكم لاذع: ويقول الناس حين يرونها.. ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين.. اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين.. وهكذا تسمن إبلك ويربو ربحك يا ابن أمير المؤمنين. ثم صاح به: يا عبد الله، خذ رأس مالك الذي دفعته في هذه الإبل واجعل الربح في بيت مال المسلمين.
لم يكتف الفاروق عمر بهذا السياج الذي أحاط به نفسه وأسرته في حربه ضد الفساد الإداري، بل أحاط نفسه بسياج آخر شكل محور الأمان الحقيقي للقضاء على جذور هذا الوباء في المجتمع عندما رفع شعار ” الحاكم تحت رقابة المحكوم”
حيث عمد الخليفة بهذه السياسة إلى الارتقاء بجانب الرقابة الإدارية إلى أبعد مستوياتها، خصوصاً وأن الخليفة عاد ليبدأ بنفسه مرة ثانية.
يروى أنه دعى الناس فصعد المنبر فقال: يا معشر المسلمين، ماذا تقولون لو ملت برأسي إلى الدنيا؟ إني لأخاف أن أخطئ فلا يردني أحد منكم تعظيماً لي، إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني. فقال رجل: والله يا أمير المؤمنين, لو رأيناك معوجاً لقومناك بسيوفنا، عندها أجاب الخليفة الزاهد والفرحة تعمر قلبه قائلا: (رحمكم الله، والحمد لله الذي جعل فيكم من يقوم عمر بسيفه).
لقد أراد الفاروق عمر أن يبرهن للرعية وبشكل قاطع أنه لا حصانة لأحد أمام القانون حتى لأمير المؤمنين نفسه بالرغم من موقعه الدبلوماسي عالي المستوى، فقد أدرك الفاروق منذ اليوم الأول لخلافته أن السلطة المطلقة فساد مطلق، كما أراد عمر بن الخطاب أن يفعل دور الرعية في مكافحة هذا المرض الخطير الذي يحتاج إلى تكاتف الجهود حاكمين ومحكومين.
كانت هذه هي اللمسات الأولى من سياسة الفاروق عمر بن الخطاب في احتواء خلايا الفساد الإداري والقضاء على جذورها فيما يتعلق به شخصياً وأقرب المقربين منه، أما وإن أردنا الحديث عن مجمل سياسته العامة في مكافحة الفساد بشتى آشكاله وأنواعه والتي قامت على قاعدة (الوقاية خير من العلاج) فإننا قد نكون بحاجة إلى مجلدات للخوض في هذا الأمر.
لقد فكر عمر بن الخطاب فأبدع عندما جعل من نفسه قدوة للأمة جمعاء، حينما عفت نفسه ويده عن أموال المسلمين، فعفت الرعية من بعده، ووزع المال على أصحابه بالحق فتال كل ذو حق حقه دون مواربة، وخصص لكل مولود في الخلافة مبلغاً من المال يعين والديه على تربيته، وهذا على سبيل المثال لا الحصر، هذا هو الخليفة عمر الذي كان يسير في طرقات المدينة لابساً ثوباً فيه إحدى وعشرين رقعة، ويبطئ يوماً عن المسلمين في صلاة الجمعة ثم يعتذر إليهم حين يصعد المنبر قائلاً: (حبسني قميصي هذا، لم يكن لي قميص غيره).
لقد أتعب عمر الإداري العبقري كل الإداريين والقادة من بعده وجعل مسؤولياتهم فادحة وكبيرة إن عقلوا وآمنوا حقا بيوم الحساب كما آمن هو.