د. علي الحمادي
نقصد باستثمار الآخرين الاستفادة من عقولهم وأموالهم وأوقاتهم وجهودهم وعلاقاتهم وجميع إمكاناتهم ومواهبهم وقدراتهم لصالح مشروعك الذي تريد به صناعة الحياة والتأثير فيها.
فعلى صانع التأثير أن يدرك أن وقته محدود، وأن ماله لا يلبي كل احتياجاته، وأن جهده أدنى من طموحاته، وأن عقول المجموعة خير من عقل الفرد، وأنه ضعيف بنفسه قوي بالآخرين.
كما أن عليه أن يدرك أنه مهما حاز من المواهب والإمكانات والعلاقات فليس بإمكانه الاستغناء عن الآخرين، وهذا شأن البشر جميعا، ومن كان هذا هو شأنه فحري به أن يفكر بذكاء أكبر، وذلك بأن يضم جهود الآخرين إلى جهده ويستثمر إمكاناتهم لصالحه.
ولقد أثنى الله تعالى على المؤمنين لاستثمار عقول بعضهم بعضا وذلك بالمشاورة فقال: (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شوری بینهم ومما رزقناهم ينفقون) الشورى (38)، كما أمر رسوله “صلى الله عليه وسلم” بمشاورة المؤمنين فقال: (… وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) آل عمران (159)، ولذا روي في الأثر: “ما خاب من استخار ولا ندم من استشار”.
الاستثمار البشري في السيرة النبوية:
ولو تأملنا سيرة المصطفى “صلى الله عليه وسلم” لوجدناه في حرص دائم على استثمار جهود أصحابه لخدمة الدعوة الإسلامية، وكان يخص الأذكياء منهم والمثابرين وأصحاب الطموح والهمم العالية، ففي يوم الخندق استثمر خبرة سلمان الفارسي في حفر الخندق، وحفر الخنادق في الحروب أمر لم تعهده العرب من قبل ولكنه معروف عند الفرس، وسميت الغزوة باسم الخندق من الأسباب المادية الرئيسة في النصر يومئذ.
واستثمر “صلى الله عليه وسلم” مكانة نعيم بن مسعود في العرب ودهاءه ليخذل عن المسلمين في معركة الأحزاب، وكان عمله هذا سبباً في تفكك الحلف الذي عقده اليهود مع المشركين من العرب، واستثمر خبرة عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وأبي بكر الصديق في تحريك القوافل للتجارة من المدينة إلى اليمن والشام وبعضها إلى العراق، واستثمر خبرة خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وسعد بن أبي وقاص وأبي عبيدة عامر بن الجراح وغيرهم في الحروب بعد إسلامهم فكانوا قادة الفتح، وفي مجال الشعر استثمر حسان بن ثابت وغيره من الشعراء فيما يسعد به نفوس المسلمين، ويرد به على شعراء المشركين، إذ كان للشعر حظوة كبيرة عند العرب، وكان يلزم كل كاتب وقارىء من الصحابة أن يعلم آخرين من إخوانه القراءة والكتابة لخدمة القرآن الكريم ولنشر العلم بينهم، واستثمر فطنة وعلم زوجه عائشة رضي الله عنها في تعليم النساء حتى أصبح كبار الصحابة يستفتونها بعد وفاة الرسول “صلى الله عليه وسلم” في أهم المسائل وأعقدها.
ولا يكفي استثمار عقول الآخرين وأوقاتهم وأموالهم وجهودهم، بل لا بد من استثمار عواطفهم ومشاعرهم لصالح المشروع التأثيري النافع، ولقد كان رسول الله “صلى الله عليه وسلم” يستميل الآخرين ويرغبهم، ليغرس في نفوسهم الأخوة والمحبة في الله، وعندها يستثمر هذه العواطف الأخوية الصادقة لصناعة حياة إسلامية سامية ولنصرة دين الله تعالی.
وفي فتح مكة…
ففي فتح مكة كان الموقف صعب بالنسبة للمشركين، إذ النبي “صلى الله عليه وسلم” قد دخلها فاتحاً منتصراً، وأهلها خائفون على أنفسهم بعد عدائهم الشديد له ولأصحابه، وإخراجهم لهم من أوطانهم وتشريدهم وقتالهم ظلماً وعدواناً، رغم كل ذلك إلا أن النبي “صلى الله عليه وسلم” أجاب بالعفو والصفح، فامتلك بذلك قلوبهم وعواطفهم ثم استثمرها في سبيل الله تعالی.
وكان بيت أبي سفيان بن حرب منبعاً للعداء والحقد ضد رسول الله “صلى الله عليه وسلم” وأصحابه، ولكنهم يوم الفتح وجدوا كل الوفاء والتقدير من رسول الله “صلى الله عليه وسلم”، حيث أصبح بيتهم مأمناً للناس، وقبل منهم رسول الله “صلى الله عليه وسلم” توبتهم وإسلامهم، فملك قلوبهم بإذن الله تعالى، فكان في دلك خير كثير على الجميع، لذا يقف أبو سفيان رضي الله عنه يوم حنين مدافعاً عن النبي “صلى الله عليه وسلم” وكان ممن ثبث معه، وحينما انطلقت الفتوحات الإسلامية خرج أبو سفيان وزوجه هند وولداه معاوية ويزيد ليكونوا من رواد الفتح الإسلامي لبلاد الشام، وكان أبو سفيان رجلاً متمرساً في الحروب وفنونها ودروب القتال وخططه، فكان يشير على خالد وأبي عبيدة رضي الله عنهم بنصائحه، وكانوا يستمعون إليه ويأخذون بمشورته، وأضحى أبناء أبي سفيان معاوية ويزيد، أعلاماً في قيادة الخلافة الإسلامية وتركوا بصماتهم في دنيا الناس، وهكذا استثمر النبي “صلى الله عليه وسلم” طاقات وإمكانات وعواطف خصوم الأمس ليكونوا سلاحاً وأداةً فاعلة لصناعة المستقبل وهندسة الحياة هندسة كريمة مباركة.
مجلة عالم الإبداع
العدد 33