هل تحب مشروعك الريادي إلى درجة القضاء عليه؟
لو سألتك هل تعرف أهمّ مقوّمات نجاح الرائد؟
لقلت على الفور إنه الشغف، إنّه عشقُ المرء ما يقوم به. ومثلما تعتقد أنت يعتقد كثيرون. فنجد أنّ الشغف والاندفاع الجارف –إلى جانب الإبداع- تتصدّر قائمة اللوازم التي لا بدّ من توفّرها لدى الروّاد حتّى يمكنهم النجاح.
ولكن انتبه يا صديقي! فللحقيقة وجه آخر يطلعنا عليه الخبراء والممارسون في مجالات ريادة الأعمال والتمويل المغامر. إنّ العنصر الأندر والأعظم قيمةً بين مكوّنات نجاح روّاد الأعمال إنّما هو الصدق مع النفس صدقاً قاطعاً صريحاً لا يعرف المحاباة ولا المجاملة.
دون شك يحتاج الإقلاع بمشروعٍ جديد إلى قدر هائل من الالتزام والطاقة والجلد، وبالتأكيد ينبغي عليك أن تؤمن –حتّى مع نقص المعطيات في بعض الأحيان- بأنّك قادر على النجاح في وجه كل الاحتمالات السلبيّة. ولكنّ الشغف أو العاطفة الجارفة كثيراً ما تحوّل عينيك عن الحقائق فلا ترى ما ينبغي أن تراه.
إنَّ عجن ماء الإيمان بالذات مع رمل التقييم الموضوعيّ المتباعد عن إرضاء النفس ربما يكون أصعب مهمّات الرائد. ولأنّ أيّ شيءٍ آخر لا يمكن أن يحلّ محلّ هذه المهمّة –بالرغم من استعصائها- في نجاح الرائد، نقدم لروّاد الأعمال هذه الإضاءات حولها.
لا تصدّق شهادات الثناء. صدّق خطوات الأداء
من تجاربهم يتعلّم الروّاد المخضرمون التمييز الواضح بين النجاح الحقيقيّ وبين مظاهر النجاح البراّقة ضئيلة القيمة والقادرة على إسكار من يستسلم لها. هناك فرقٌ هائل بين أن يحتلّ المرء المركز الأوّل في مسابقة خطط العمل، أو ينال جائزة هذه المؤسسة المرموقة الراعية للروّاد، أو يُطرّز اسمه على صفحات تلك المجلّة، وبين أن يكون لديه زبائن يدفعون له ويُربِحونه ولديه مؤسّسةٌ مقتدرةٌ على إرضاء أولئك الزبائن.
أجل، يعرف الروّاد المحنّكون كيف يستثمرون شهادات وألقاب النجاح استثماراً فعّالاً في التسويق لأنفسهم ولمؤسساتهم وفي جذب اهتمام المستثمرين، ولكنهم مع ذلك يبقون واعين للفرق الكبير بين الثناء وبين النجاح.
إنّهم لا يسمحون لأنفسهم بالوقوع بما وقع به أشعب. ذات يوم اجتمع أولاد الحيّ حول أشعب ليمزحوا ويعبثوا حتّى أرهقوه، فلم يجد سبيلاً إلى التخلّص منهم إلاّ أن قال لهم: أسرعوا فوراً فجارنا أبو فلان قد أعدّ وليمةً عظيمةً. ولم يلبث أشعب إلاّ قليلاً حتّى انطلق يجري نحو دار أبي فلان. قال له الناس لماذا تجري الآن؟ فقال لهم ألا يمكن أن يوجد في دار أبي فلان وليمة عظيمة حقاً؟
لا تكذب على نفسك
مدهشٌ حقاً مقدار الكذب المعجون عجناً في كلّ ميادين الحياة، وميدان العمل ليس استثناءً. ولكن مهلاً! لا تتسرّع وتسئ فهمي أرجوك!
قبل التركيز على استكشاف النوايا والمعاني الحقيقيّة الكامنة وراء أحاديث زبائنك، وموظّفيك، والمستثمرين، والمورّدين، والمنافسين، قبل التركيز على أكاذيب هؤلاء يجدر بك التركيز على أسوا الأكاذيب وأشدّها تدميراً: الأكاذيب التي يخدع بها أحدنا نفسه.
إذاً: حيثما تجد نفسك متردّداً حائراً أغلق باب مكتبك على نفسك، تأكّد أن لا أحد في الجوار، انظر في المرآة وقل الحقيقة لنفسك. هل هذا حقّاً هو أفضل المستثمرين المعروضين علينا؟ هل هذا حقاً هو أفضل المرشّحين لهذا المنصب، بغض النظر عن توصيات أو تدخلات الآخرين؟
اضبط نفسك، وابحث عمّن يقول لك لا
تقول الأسطورة المشهورة إنّ البطل الإغريقي يوليسيس واجه مع بحّارته كائناتٍ مغنّيةً لا بدّ لمن يريد عبور منطقة بحريّة خطيرة من سماع أصواتها، وكان سماع الأصوات والافتتان المحتّم بها والتوجّه نحو مصدرها كفيلاً بتحطيم السفن على الصخور. حتّى يصمد أمام الألحان المهلكة التي تشدو بها تلك الكائنات فإنّه لم يكتفِ بتقييد نفسه إلى صارية السفينة وسدّ آذان رجاله بل شدّد على رجاله الأمر بالإعراض عن كلّ توسّلاته وألاّ يفكّوا وثاقه مهما كانت الظروف. والنتيجة؟ لقد أدّى عدم إذعان البحّارة لرغبات قائدهم إلى نجاتهم ونجاة السفينة والقائد من المهالك.
حين يقف الرائد على سطح سفينته فإن القصة السابقة تعني أن يحيط نفسه برجالٍ يقومون بكلّ ما ينبغي القيام به من أجل مصلحة المشروع أو المؤسّسة، وليس من أجل إرضاء القائد وتلبية رغباته.
إنّ رائد الأعمال المتمتّع بقوّة الإرادة والاعتداد بنفسه وأفكاره سيكون إنصاته إلى ملاحظات الناقدين أمراً صعباً جداً، وإن أسعفك الحظّ وكان بقربك أناسٌ يهدونك الحقيقة الصريحة رغم صعوبة تقديمها فعليك التمسّك بهم في فريقك.
هل لديك شجاعة الانهزام بسرعة؟
تغيير الطريق يحتاج حكمةً ومقدرة أكثر من الإصرار عليه
إنّ هذا التراجع المدروس ليس بالأمر السهل، ولذلك فإنّ كثيراً من أصحاب الكفاءات لا يقدمون على سلوك درب الريادة لأنّهم لا يثقون في مقدرتهم على معرفة التوقيت المناسب ولا الكيفية المناسبة لضغط زرّ التصفير والبدء من جديد.
على الرغم من أن المثابرة والصمود في وجه الشدائد كثيراً ما تصنّف كأهمّ الخصائص الرياديّة، فإنّ المخضرمين من الروّاد يتعلّمون من تجاربهم كيف يديرون المخاطر من خلال الفشل باكراً وبأقل ما يمكن من تكاليف، ثمّ إعادة حشد مواردهم والانطلاق في اتجاهٍ جديد. كان هذا ما تعرّف عليه اثنان من طلّاب إدارة الأعمال أثناء محاولتهما تنفيذ خطة عملهما التي نالا عليها جائزة كليّة أعمال هارفارد. كتبا يقولان: أعزّاءنا المشجّعين الداعمين. بعد أكثر من سنة في العمل قرّرنا أن نتوقّف. إنه قرار صعبٌ حقاً ولكنّنا نؤمن أنّه القرار الصحيح، ونحن سعداء بالتوصّل إليه قبل أن نأخذ التمويل الرأسماليّ من طرفٍ ثالث. بالرغم من صعوبة الأمر فإنّنا نشعر بأنّنا محظوظان إذ تمكّنا من الإغلاق باكراً. كثيرٌ من أصحاب الأعمال الصاعدة لا يدركون ضعف الجدوى من أعمالهم إلاّ بعد تبديد الكثير من المال وبثّ الفوضى والمتاعب في حياة كثيرٍ من الناس. كان وقوعنا في ذلك الخطأ القاتل محتملاً، ولكنّنا نجونا والحمد لله. إنّ “الإخفاق بسرعة” وتعلّم كل ما يمكن تعلّمه من تلك التجربة هو ثاني أفضل ما يمكن للرائد القيام به”
أيّ مغفّل يمكنه الإصرار والمضيّ دون التفات. وحده العاقل يعرف متى ينبغي عليه التوقّف وطيّ أشرعته.
إذاً: عزيزي رائد الأعمال، عندما تنهض إلى عملك كل صباح اترك عواطفك في البيت. وعندما تقف على حافة إطلاق مشروعك فإيّاك أن تدع شيئاً يتدخّل ويفسد قيامك بتقييم عقلانيّ متيقّظ موضوعيّ وحازم. وتذكّر:
الشجاعة لا التهوّر، المثابرة لا يبوسة الرأس، تحقيق النتائج وليس إحراق الجهد والموارد، تجاوز العقبات لا مناطحتها، هذه صفات روّاد الأعمال الناجحين وصفات الأنهار الكبرى التي ترسم جغرافيّة العالم.
إعداد: الأستاذ معتز حبش استناداً إلى أبحاث البروفيسور دانييل آيسنبيرغ Daniel Isenberg أستاذ الإدارة العمليّة في بابسون كوليج